كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



{لَّهَا طَلْعٌ نَّضِيدٌ} أي: متراكم بعضه فوق بعض.
{رِزْقًا لِّلْعِبَادِ} أي: لرزقهم، قال أبو السعود: علة لقوله تعالى: {فَأَنبَتْنَا} وفي تعليله بذلك بعد تعليل أنبتنا الأول بالتبصرة والتذكير، تنبيهٌ على أن الواجب على العبد أن يكون انتفاعه بذلك من حيث التذكر والاستبصار، أهم من تمتعه به من حيث الرزق. وقيل: {رِزْقًا} مصدر من معنى {أَنبَتْنَا} لأن الإنبات رزق.
{وَأَحْيَيْنَا بِهِ} أي: بذلك الماء {بَلْدَةً مَّيْتًا} أي: أرضًا جدبة، فأنبتت أنواع النبات والأزهار.
{كَذَلِكَ الْخُرُوجَ} أي: خروجهم أحياء من القبور. شبه بعث الأموات ونشرهم بقدرته تعالى بإخراج النبات من الأرض بعد وقوع المطر عليها، فـ {كَذَلِكَ} خبر {الْخُرُوجَ}، أو مبتدأ، فالكاف بمعنى مثل.
{كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحَابُ الرَّسِّ وَثَمُودُ وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ وَإِخْوَانُ لُوطٍ وَأَصْحَابُ الْأَيْكَةِ وَقَوْمُ تُبَّعٍ كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ} [12-14].
{كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ} أي: قبل قريش {قَوْمِ نُوحٍ} قال أبو السعود: استئناف وارد لتقرير حقيقة البعث، ببيان اتفاق كافة الرسل عليهم السلام عليها، وتعذيب منكريها.
{وَأَصْحَابَ الرَّسِّ} وهو بئر كانوا عنده. يقال: إنهم قوم شعيب عليه السلام. ويقال غير ذلك، كما تقدم في سورة الفرقان.
{وَثَمُودَ} وهم اللذين جادلوا صالحًا، وقتلوا الناقة.
{وَعَادٍ} وهم اللذين جادلوا هودًا في أصنامهم.
{وَفِرْعَوْنَ} وهو الذي جادل موسى فيما أُرسل به. قال الرازي: ولم يقل: وقوم فرعون؛ لأن فرعون كان هو المغترّ المستخف بقومه والمستبد بأمره.
{وَإِخْوَانُ لُوطٍ} وهم اللذين جادلوه في إتيان الرجال.
{وَأَصْحَابُ الأَيْكَةِ} أي: الغيضة من الشجر، المجادلون شعيبًا في الكيل والوزن.
{وَقَوْمُ تُبَّعٍ} قال المهايمي: المجادلون إمامهم وعلماءهم في الدِّين. ومضى الكلام على ذلك في الحِجر والدخان.
{كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ} أي: كل من هذه الأمم وهؤلاء القرون كذبوا رسولهم، ومن كذب رسولًا فكأنما كذب جميع الرسل، كقوله تعالى: {كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ} [الشعراء: 105] وإنما جاءهم رسول واحد، فهم في نفس الأمر، لو جاءهم جميع الرسل كذبوهم، أفاده ابن كثير، وهو توجيه لجمع الرسل. وإفراد ضمير {كَذَّبَ} مراعاة للفظ {كَذَّبَ} فإنه مفرد وإن كان جمعًا معنى.
{فَحَقَّ وَعِيدِ} أي: فوجب لهم الوعيد الذي وعد به مَنْ كفر، وهو العذاب والنقمة. قال ابن جرير:
إنما وصف تعالى في هذه الآية ما وصف من إحلاله عقوبته بهؤلاء المكذبين الرسل؛ ترهيبًا منه بذلك مشركي قريش، وإعلامًا منه لهم أنهم إن لم ينيبوا من تكذيبهم رسوله محمدًا صلى الله عليه وسلم أنه مُحِلٌ بهم من العذاب مثل الذي أحلَّ بهم. أي: فهو تسلية للرسول صلوات الله عليه، وتهديد لهم.
القول في تأويل لقوله تعالى: {أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِّنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ} [15].
{أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ} أي: أفعجزنا عن الإبداء حتى نعجز عن الإعادة؟! فالهمزة للإنكار. قال الشهاب: العي هنا بمعنى العجز، لا التعب. قال الكسائي: تقول: أعييت من التعب، وعييت من انقطاع الحيلة، والعجز عن الأمر. وهذا هو المعروف والأفصح، وإن لم يفرق بينهما كثير.
{والخلق الأول} والخلق الأول هو الإبداء على ما ذكر، ويحتمل أن يراد به خلق السماوات والأرض؛ لأن خلق الْإِنْسَاْن متأخر عنه، ويدل له آية: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ} [الأحقاف: 33] الآية.
وقوله: {بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِّنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ} عطف على مقدر، يدل عليه ما قبله، كأنه قيل: هم معترفون بالخلق الأول، فلا وجه لإنكارهم للثاني، بل هم اختلط عليهم الأمر والتبس؛ لعدم فهمهم إعادة ما مات وتفرَّق أجزاؤه وإعراضهم عن سلطان القدرة الإلهية، وسهولة ذلك في المقدورات الربانية.
لطيفة:
قال الناصر: في الآية أسئلة ثلاث: لِمَ عَرَّف الخلق الأول، ونكَّر اللبس، والخلق الجديد؟
فاعلم: أن التعريف لا غرض منه إلا تفخيم ما قصد تعريفه وتعظيمه، ومنه تعريف الذكور في قوله: {وَيَهَبُ لِمَن يَشَاء الذُّكُورَ} [الشورى: 49]، ولهذا المقصد عرَّف الخلق الأول؛ لأن الغرض جعله دليلًا على إمكان الخلق الثاني بطريق الأولى، أي: إذا لم يعيَ تعالى بالخلق الأول- على عظمته- فالخلق الآخر أولى أن لا يَعيىَ به. فهذا سر تعريف الخلق الأول.
وأما التنكير فأمره منقسم: فمرَّةً يقصد به تفخيم المنكّر من حيث ما فيه من الإبهام، كأنه أفخم من أن يخاطبه معرفة. ومرةً يقصد به التقليل من المنكَّر والوضع منه، وعلى الأول: {سَلَامٌ قولا مِن رَّبٍّ رَّحِيمٍ} [يس: 85]، وقوله: {لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ} [المائدة: 9] و[الحجرات: 3]، و{إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ} [الطور: 17]، وهو أكثر من أن يحصى. والثاني: هو الأصل في التنكير، فلا يحتاج إلى تمثيله، فتنكير اللبس من التعظيم والتفخيم، كأنه قال: في لبس أي: ليس. وتنكير الخلق الجديد؛ للتقليل منه والتهوين لأمره بالنسبة إلى الخلق الأول. ويحتمل أن يكون للتفخيم، كأنه أمرٌ أعظم من أن يرضى الإنسان بكونه ملتبسًا عليه، مع أنه أول ما تبصر فيه صحته. انتهى.
{وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} [16].
{وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ} أي: تحدِّث به نفسه، وهوما يخطر بالبال. وقوله تعالى: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} تمثيل للقرب المعنوي بالصورة الحسية المشاهدة، وقد جعل ذلك القرب أتم من غاية القرب الصوريّ الذي لا اتصال أشد منه في الأجسام؛ إذ لا مسافة بين الجزء المتصل به وبينه.
قال الشهاب: تجوّز بقرب الذات عن قرب العلم، لتنزّهه عن القرب المكاني، إما تمثيلًا، وإما إطلاق السبب وإرادة المسبب؛ لأن القرب من الشيء سبب للعلم به وبأحواله في العادة. والمعنى: أنه تعالى أعلم بأحواله- خفيّها وظاهرها- من كل عالم. وقد ضرب المثل في القرب بحبل الوريد؛ لأن أعضاء المرء وعروقه متصلة على طريق الجزئية، فهي أشد من اتصال ما اتصل به من الخارج؛ وخص هذا لأن به حياته، وهو بحيث يشاهده كل أحد. والحبل: العرق؛ شبه بواحد الحبال؛ فإضافته للبيان أو لامية، من إضافة العام للخاص. فإن أبقى الحبل على حقيقته، فإضافته كلجَيْن الماء.
تنبيه:
تأول ابن كثير الآية على غير ما تقدم بجعل {نَحْنُ} كناية عن الملائكة، وعبارته: يعني ملائكته تعالى أقرب إلى الإنسان من حبل وريده إليه. قال: ومن تأوله على العلم، فإنما فرَّ لئلا يلزم حلول أو اتحاد، وهما منفيان بالإجماع، تعالى اللهُ وتقدس، ولكن اللفظ لا يقتضيه؛ فإنه يقلُّ: وأنا أقرب إليه، وإنما قال: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ} كما قال في المحتضر: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنكُمْ وَلَكِن لَّا تُبْصِرُونَ} [الواقعة: 85]، يعني: ملائكته. وكما قال تبارك وتعالى:
{إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر: 9]، فالملائكة نزلت بالذكر وهو القرآن، بإذن الله عز وجل. وكذلك الملائكة أقربُ إلى الإنسان من حبل الوريد، بإقدار الله جلَّ وعَلا لهم على ذلك. فللملَك لمَّةٌ من الإنسان كما أن للشيطان لمَّة؛ ولذلك الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم.
ثم أيد ابن كثير رحمه الله ما ذكره بما ورد في الآية بعدها. والوجه الأول أدق وأقرب، وفيه من الترهيب وتناهي سعة العلم، مع التعريف بجلالة المقام الربانيّ ما لا يخفى حسنه.
وليس تأويل من تأول بالعلم للفرار من الحلول والاتحاد فقط، بل له ولِما تقدم أولًا، كما أن إيثار: نحن على: أنا لا يحسم ما نفاه؛ لاحتمال إرادة التعظيم بـ: نحن، كما هو شائع، فلا يتم له ذلك. نعم! اللفظ الكريم يحتمل ما ذكره بأن يكون ورد ذلك تعظيمًا للملك؛ لأنه بأمره تعالى وبإذنه، ولكن لا ضرورة تدعو إليه، مع ما عرف من أن الأصل الحقيقة. وقد عنى رحمه الله بمن فهم الحلول والاتحاد مَن قال في تفسير الآية- كالقاشاني- ما مثاله: وإنما كان أقرب مع عدم المسافة بين الجزء المتصل به وبينه؛ لأن اتصال الجزء بالشيء يشهد بالبينونة والاثنينية الراجعة للاتحاد الحقيقيّ، ومعيته وقربه من عبده ليس كذلك، فإن هويته وحقيقته المندرجة في هويته وتحققه ليست غيره، بل إن وجوده المخصوص المعين إنما هو بعين حقيقته التي هي الوجود، من حيث هو وجود، ولولاه لكان عدمًا صِرفًا ولا شيئًا محضًا. انتهى كلام القاشاني، ولا يفهم من ذلك حلول ولا اتحاد بالمعنى المتعارف؛ لأن لهؤلاء اصطلاحًا معروفًا، وهم أوَّلُ من يتبرَّأ من الحلول والاتحاد، كما أوضحت ذلك مع برهان استحالتهما في كتاب (دلائل التوحيد) الذي طبع بحمد الله من أمد قريب، فارجع إليه واستغفر لمصنِّفه.
أقول: رأيت ابن كثير بعدُ، مسبوقًا بما ذكره شيخه الإمام ابن تيمية، فقد أوضح ذلك رحمه الله في كتابه (شرح حديث النزول): ليس في القرآن وصف الرب تعالى بالقرب من كل شيء أصلًا، بل قُربُه الذي في القرآن خاصٌّ لا عام، كقوله تعالى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} [البقرة: 186] فهو سبحانه قريب ممن دعاه، وكذلك ما في الصحيحين، عن أبي موسى الأشعريّ، أنهم كانوا مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفر، فكانوا يرفعون أصواتهم بالتكبير فقال: «أيها الناس! اربَعوا على أنفسكم؛ فإنكم لا تدعون أصمَّ ولا غائبًا، وإنما تدعون سميعًا قريبًا، إن الذي تدعونه أقرب إلى أحدِكم من عُنقِ راحلتِه». فقال: «إن الذي تدعونه أقرب إلى أحدكم» لم يقل: إنه قريب إلى كل موجود. وكذلك قول صالح عليه السلام {فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُّجِيبٌ} [هود: 61]، ومعلوم أن قوله: {قَرِيبٌ مُّجِيبٌ} مقرون بالتوبة والاستغفار. أراد به قريب مجيب لاستغفار المستغفرين التائبين إليه، كما أنه رحيم ودود. وقد قرن القريب بالمجيب، ومعلوم أنه لا يقال: مجيب لكل موجود، وإنما الإجابة لمن سأله ودعاه، فكذلك قربُه سبحانه وتعالى، وأسماء الله المطلقة- كاسمه السميع والبصير والغفور والشكور والمجيب والقريب- لا يجب أن تتعلَّق بكل موجود، بل يتعلق كل اسم بما يناسبه، واسمه العليم لمَّا كان كل شيء يصلح أن يكون معلومًا تعلَّق بكل شيء.
وأما قوله تعالى: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} فالمراد به قربه إليه بالملائكة، وهذا هو المعروف عن المفسرين المتقدمين من السلف، قالوا: ملك الموت أدنى إليه من أهله، ولكن لا تبصرون الملائكة. وقد قال طائفة {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ} بالعلم، وقال بعضهم: بالعلم والقدرة والرؤية. وهذه الأقوال ضعيفة، فإنه ليس في الكتاب والسنة وصفه بقرب عامٍّ من كل موجود؛ حتى يحتاجوا أن يقولوا: بالعلم والقدرة، ولكن بعض الناس لمَّا ظنوا أنه يوصف بالقرب من كل شيء، تأولوا ذلك بأنه عالم بكل شيء قادر على كل شيء، وكأنهم ظنوا أن لفظ القرب مثل لفظ المعية. وقد ثبت عن السلف أنهم قالوا في الآية {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ} [الحديد: 4]: هو معهم بعلمه مع علوِّه على عرشه. وقد ذكر ابن عبد البر وغيره أن هذا إجماع من الصحابة والتابعين، لم يخالفهم فيه أحد.
ثم قال: ولم يأت في لفظ القرب مثل ذلك أنه قال: هو فوق عرشه، وهو قريب من كل شيء، بل قال: {إِنَّ رَحْمَتَ اللّهِ قَرِيبٌ مِّنَ الْمُحْسِنِينَ} [الأعراف: 56]، وقال: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} [البقرة: 186].
وقد روى ابن أبي حاتم بسنده أن رجلًا جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! أقريب ربُّنا فنناجيه، أم بعيدٌ فنناديه؟ «فسكت النبي صلى الله عليه وسلم»، فأنزل الله تعالى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ} الآية. ولا يقال في هذا: قريب بعلمه وقدرته، فإنه عالم بكل شيء، قادر على كل شيء، وهم لم يشكّوا في ذلك ولم يسألوا عنه، وإنما عن قُربِه إلى مَن يدعوه ويناجيه، فأخبر أنه قريب مجيب.
وطائفة من أهل السنة تفسر القُرْب في الآية والحديث بالعلم؛ لكونه هو المقصود، فإنه إذا كان يعلم ويسمع دعاء الداعي حصل مقصوده، وهذا هو الذي اقتضى أن يقول من يقول بإنه قريب من كل شيء، بمعنى العلم والقدرة، فإن هذا قد قاله بعض السلف وكثير من الخلف، لكن لم يقل أحد منهم: إن نفس ذاته قريب من كل موجود، وهذا المعنى يقرُّ به جميع المسلمين، من يقول: إنه فوق العرش، ومن يقول: إنه ليس فوق العرش.
ثم قال: وهؤلاء كلهم مقصودهم أنه ليس المراد أن ذات البارىء جلَّ وعلا قريبة من وريد العبد ومن الميت. ولمَّا ظنوا أن المراد قربه وحده دون الملائكة فسَّروا ذلك بالعلم والقدرة، كما في لفظ المعية. ولا حاجة إلى هذا، فإن المراد بقوله: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنكُمْ} أي: بملائكتنا، في الآيتين، وهذا بخلاف المعية، فإنه لم يقل: ونحن معه، بل جعل نفسه هو الذي مع العباد، وأخبر أنه ينبئهم يوم القيامة بما عملوا، وهو نفسه الذي خلق السماوات والأرض، وهو نفسه الذي استوى على العرش؛ فلا يجعل لفظ مثل لفظ، مع تفريق القرآن بينهما.
ثم قال: وقوله تعالى: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} لا يجوز أن يراد به مجرد العلم، فإن من كان بالشيء أعلم من غيره لا يقال: إنه أقرب إليه من غيره، بمجرد علمه به، ولا بمجرد قدرته عليه. ثم إنه سبحانه عالم بما يُسَرُّ من القول وما يجهر به، وعالم بأعماله، فلا معنى لتخصيصه حبلَ الوريد بمعنى أنه أقرب إلى العبد منه؛ فإن حبل الوريد قريب إلى القلب، ليس قريبًا إلى قوله الظاهر، وهو يعلم ظاهر الإنسان وباطنه. قال تعالى: {يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى} [طه: 7]، ومما يدل على أن القرب ليس المراد به العلم سياقُ الآية، فإنه قال: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ} فأخبر أنه يعلم وَسواسَ نفسه.
ثم قال: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} فأثبت العلم، وأثبت القرب، وجعلهما شيئين، فلا يجعل أحدهما هو الآخر، وقيد القرب بقوله: {إِذْ يَتَلَقَّى} الآية.
وأما من ظن أن المراد بذلك قرب ذاتِ الربِّ من حبل الوريد، وأن ذاته أقرب إلى الميت من أهله، فهذا في غاية الضعف؛ وذلك أن الذين يقولون: إنه في كل مكان، وإنه قريب من كل شيء بذاته، لا يخصون بذلك شيئًا دون شيء، ولا يمكن مسلمًا أن يقول: إن الله قريب من الميت دون أهله، ولا: إنه قريب من حبل الوريد دون سائر الأعضاء. وكيف يصح هذا الكلام على أصلهم، وهو عندهم في جميع بدن الإنسان، وهو في أهل الميت، كما هو في الميت، فكيف يكون {أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنكُمْ} إذا كان معه ومعهم على وجه واحد؟ وهل يكون أقرب إلى نفسه من نفسه، وسياق الآيتين يدل على أن المراد هو الملائكة!، فإنه قال: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ إِذْ يَتَلَقَّى} [16- 17] الآيتين. فقيَّد القرب بهذا الزمان، وهو زمان تلقي المتلقيين، وهما الملكان الحافظان اللذان يكتبان، كما قال: {مَا يَلْفِظُ مِن قول} [ق: 18] الآية. ومعلوم أنه لو كان قرب ذاتٍ لم يخصَّ ذلك بهذا الحال، ولم يكن لذكر القعيدين: الرقيب والعتيد معنى مناسب. وكذلك قوله في الآية الأخرى: {فَلَوْلَا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ وَأَنتُمْ حِينَئِذٍ تَنظُرُونَ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنكُمْ وَلَكِن لَّا تُبْصِرُونَ} [الواقعة: 83- 85]، فإن هذا إما يقال: إذا كان هناك من يجوِّز أن يبصر في بعض الأحوال، لكن نحن لا نبصره، والرب تعالى في هذا الحال لا يراه الملائكةُ ولا البشر. وأيضًا فإنه قال: